كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضًا، فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين، وهذا أمر متصور شرعًا وحسًا.
فظهر أن صحة هذا الباب هي مقتضى النص والقياس، وبالله التوفيق.
وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك، إلا إذا خيف غدر أحدهما، وإبطاله للعقد، والرجوع إلى أجرة المثل.
فالحيلة في التخلص من ذلك: أن يدفع إليه ربع الغزل والحب، أو نصفه. ويقول: انسج لى باقيه بهذا القدر، فيصيران شريكين في الغزل والحب، فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح، وكان بينهما على قدر ما شرطاه.
والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه، وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة، فهلا أجازوه من أصله كذلك؟ وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها ومعانيها، دون صورها وألفاظها؟ وبالله التوفيق.
المثال الثانى والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه، وله هو دين على آخر. فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذي له على ذلك، لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة، وقد توارى عنه غريمه، فيتعذر عليه الحوالة والوكالة.
فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكله، فيقول: وكلتك في اقتضاء دينى الذي على فلان، وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصًا مما لى عليه، وأجزت أمرك في ذلك. فيقبل الوكيل، ويشهد عليه شهودا، ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود، أو غيرهم أن فلانًا وكلنى بقبض ماله على فلان، وأن أجعله قصاصًا بما لفلان على، وأجاز أمرى في ذلك، وقد قبلت من فلان ما جعل إلى من ذلك، واشهدوا أنى قد جعلت الألف درهم التي لفلان على قصاصًا بالألف التي لفلان موكلى عليه، فتصير الألف قصاصًا، ويتحول ما كان للرجل المتوارى على هذا الوكيل للرجل الذي وكله.
المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذي عليه المال. وأراد الرجل أن يثبت ماله عليه، حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب، جاز للحاكم أن يحكم عليه في حال غيبته مع بقائه على حجته في أصح المذهبين. وهو قول أحمد في الصحيح عنه، ومالك، والشافعى. وعند أبى حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب. فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه.
فالحيلة له: أن يجئ برجل، فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب، ويسميه وينسبه، ويشهد على ذلك، ثم يقدمه إلى القاضي، فيقر الضامن بالضمان، ويقول: قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان، ولا أدرى كم له عليه. ولا أدرى: له عليه مال، أم لا؟ فإن القاضي يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضي بمحضر من هذا الضمين، وحكم على الغائب، وعلى هذا الضامن بالمال بموجب ضمانه، ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصمًا على الغائب، لأنه قد ضمن ما عليه. ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه. ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه، فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع.
المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعًا له، ويقر له في السر بعينه. ويجحده في العلانية، ويريد تخليص ماله منه.
فالحيلة له: أن يبيعه ممن يثق به، ويشهد له على ذلك ببينة عادلة. ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب. ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقنوا بذلك عند الأداء، فإذا أشهد الغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذي باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له لسبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه فُيسلَّم العين للمغصوب منه. وكذلك لو أقربها المغصوب منه لرجل يثق به، ثم باعها بعد ذلك للغاصب، ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق.
فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة، وقال للمغصوب منه: لست أبتاع منك هذه السلعة، خشية هذا الصنيع، ولكن آمر من يبتاعها منك لى، فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته.
فالحيلة: أن يبيعها أولا ممن يثق به، ولا يكتب في كتاب هذا الشراء الثانى قبض المشترى، فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه، ثم جاء الرجل الذي كتب له المغصوب منه الشراء، كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم، وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشترى لها أولا أولى، ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه.
المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجله. لزم تأجيله على أصح المذهبين، وهو مذهب مالك، وقول في مذهب أحمد. والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل، كما هو قول الشافعى، وأبى حنيفة، ويدل على التأجيل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَالاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3] وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34].
وقوله صَلى اللهُ تعالى عَلَيه وسلم: «المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ» وقوله: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» وقوله: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لواء عِنْدَ اُسْتِهِ يَوْمَ القيامة بِقَدْرِ غُدْرَتِهِ» وقوله: «لا تَغْدِرُوا» وقوله: «إنّ الْغَدْر لا يصْلُحُ». وقوله في صفة المنافق: «إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ».
وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح، وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل.
وعلى القول الأخر: قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل.
فالحيلة فيه: أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها، بقدر مدة التأجيل، فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب، ولا لورثته على المستقرض سبيل، ولا على المحال عليه إلى الأجل. فإن الحوالة تنقل الحق.
ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة، فإن مات المحال عليه الأول، لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل، ولا على المحال عليه الثانى.
المثال السادس والسبعون: إذا رهنه دارا أو سلعة على دين، وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه.
فالقول قول المرتهن في قدره، ما لم يَدَّع أكثر من قيمته هذا قول مالك: وقال الشافعى، وأبو حنيفة، وأحمد: القول قول الراهن، وقول مالك هو الراجح. وهو اختيار شيخنا، لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب يشهد بقدر الحق، والشهود التي تشهد به، وقائما مقامه. فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت الوثيقة من الرهن، وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شئ، فلم يكن في الرهن فائدة. والله سبحانه وتعالى قد قال في آية المداينة [البقرة: 282] التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود، أو النسيان، فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين، وأمر الكاتب أن يكتب، ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب. ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى، وأمر من عليه الحق أن يملل، ويتقى ربه فلا يبخس من الحق شيئًا. فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه، أو عدم استطاعته، فوليه مأمور بالإملاء عنه. فأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين. فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذي لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين، ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة. ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق، سآمة ومللا. وأخبر أن ذلك أعدل عنده، وأقوم للشهادة. فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها. وفى ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه. وإلا لم يكن بالتعليل بقوله: {وأقوم للشهادة} [البقرة: 282] فائدة.
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين، وعدم الريب. ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة إذا كان بيعًا حاضرًا فيه التقايض من الجانبين، يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه.ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا، خشية الجحود وغدر كل واحد منهما بصاحبه فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك. ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا، إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملًا وأداء، أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق، أو بكتم الشاهد بعض الشهادة، أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيرًا يضر بصاحب الحق، أو يمطلاه، ونحو ذلك، أو هو نهى لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد، بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما، أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما. ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله. فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود. ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود، وهو السفر في الغالب، فقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهَانٌ مَقبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود، شاهدة مخبرة بالحق، كما يخبر به الكتاب والشهود. وهذا، والله أعلم، سر تقييد الرهن بالسفر، لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذي ينطق بالحق غالبًا، فقام الرهن مقامه، وناب منابه، وأكد ذلك بكونه مقبوضًا للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده. فلا أحسن من هذه النصيحة، وهذا الإرشاد والتعليم، الذي لو أخذ به الناس لم يضع في الأكثر حق أحد، ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان. فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم.
والمقصود: أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين لم يكن وثيقة ولا حافظًا لدينه، ولا بدلا من الكتاب الشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه، ومن يجعل القول قول الراهن، فإنه يصدقه على ذلك ويقبل قوله في رهن الربع والضيعة على هذا القدر. فالذى نعتقده وندين الله به: هو قول أهل المدينة. فإذا أراد الرجل حفظ حقه، وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب.
فالحيلة في قبول قوله: أن يسترهنه المرتهن على قيمته، ويدفع إليه ما اتفقا عليه، ويشهد الراهن أن الباقى من قيمته أمانة عنده، أو قرض في ذمته يطالبه به متى شاء، فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه، ويأمن ظلم الآخر له، والله أعلم.
المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، وفى يده رهن بالألف، فطالب صاحب الدين الغريم بالألف، وقدمه إلى الحاكم، وقال: لى على هذا ألف درهم، وخاف أن يقول: وله عندى رهن بالألف وهو كذا وكذا. فيقول الغريم: ماله على هذه الألف التي يدعيها، ولا شيء منها، وهذا الذي ادعى أنه لى رهن في يده هو لى، كما قال، ولكنه ليس برهن، بل وديعة، أو عارية، فيأخذه منه ويبطل حقه.
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يدعى بالألف، فيسأل الحاكم المطلوب عن المال، فإما أن يقر به، وإما أن ينكره، فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه، أو بيع في وفائه. وإن أنكره وقال: ليس له على شئ، ولى عنده تلك العين: إما الدار وإما الدابة. فليقل صاحب الحق للقاضى: سله عن هذا الذي يدعى على: على أي وجه هو عندى؟ أعارية، أم غصب أم وديعة، أم رهن؟ فإن ادعى أنه في يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه، وكان صادقًا، وإن ادعى أنه في يده على وجه الرهن، قال للقاضى: سله: على كم هو رهن؟ فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين، وطالب بحقه. وإن جحد بعضه حلف على نفى ما ادعاه، وكان صادقًا.
المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها، أو أجره دارا ولم يتسلمها، أو زوِّجه ابنته ولم يسلِّمها إليه. ثم ادعى عليه بالثمن، أو الأجرة، أو المهر، فخاف إن أنكر أن يستحلفه، أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود، وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به.
فالحيلة في تخلصه: أن يقول في الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه، أو إجارة دار لم تسلمها إلى، أو نكاح امرأة لم تسلمها إلى، أو كانت المرأة هي التي ادَّعت فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمى إلى نفسك فيه، ولم تمكنينى من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به. وإن كان غير ذلك فلا أقر به. وهذا جواب صحيح يتخلص به.